الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

التراث السودانى المخطوط

التراث السودانى المخطوط

يعبر التراث عن شخصية الأمة ، ويساعد على معرفة مدى إسهامها الفكري ، وهو رابط للماضى بالحاضر كما يعتبر أيضاً معبراً و جسراً جيداً نحو المستقبل. ويتكون التراث السوداني الذي نحن بصدد الحديث عنه من جزئين : الجزء الأول هو ناتج النشاط البشرى الذى صور واقع الحياة اليومية فى شكل التصرفات الحياتية ؛ و انتج تراث خطى فى شكل وثائق الأحوال الشخصية ؛ الترجمة الحقيقية للإنتاج الفكرى الفقهى المدون ، مثل معاملات البيع و الشراء و المداينات النكاح و الصداق و الطلاق و الإجارة و ما إلى ذلك من التصرفات ، بالإضافة إلى الوثائق الديوانية التى انتجتها دواوين السلطنات الإسلامية المتعاقبة (الفُونج و الفور و المهدية) .
أمّا الجزء الثاني فهو ناتج النشاط الفكرى ، الذى يتمثل فى المؤلفات والمصنفات فى شتى ضروب المعرفة ؛ وإن كان الاعتماد والتركيز فيها اتجه إلى علوم الدين الإسلامى واللغة العربية - لدواعى و حاجات علمية وعملية معتبرة - إلا أنه عكس واقع الحياة الفكرية وعبر عن منظورها الحضارى ، وقد اتضحت اهميتة فى خصوصية المكان و الزمان بتلبية حاجات العصر وثقافته ، والتى ظهرت عبر مستوى العلماء الذين تجاوزوا مراحل النقل المجرد و الشرح و الاختصار الى مراحل التأليف الاصيل الذى اخرج نماذج فريده اتصفت ببعض سمات وملامح خاصة و متميزة فى الأدب السوداني المخطوط .
أمّا كيف و متى نشأ هذا التراث؟ و المراحل و التطورات التى مر بها ، فتشير المصادر التاريخية الوطنية و الاجنبية، أن البداية كانت من الشمال ، حيث تعتبر مناطق دنقلا و ديار الشايقية منابع اصيلة للتراث العربى المخطوط - من الصعب فصل دنقلا عن مناطق الشايقية تاريخيا – فقد كانت من اسبق المناطق استقبالا لعلوم القرآن و الفقه، و قد اشتهر من علمائها محمد بن عيسى سوار الذهب ، لاغرو فالمنطقة شهدت بداية الحركة العلمية بقدوم غلام الله بن عائد ثم احفاده اولاد جابر ومدارسهم الشهيره ؛ يذكر بوركهارت ان كل العلوم الاسلامية عدا الفلك والرياضيات كانت تدرس فى مدارس الشايقية ، و هى دلالة واضحة على ثراء تلك المنطقة من التراث الخطى، بيد أن التركيز انصب على علوم القرآن التى نبغ فيها الغُبش ، وإذا اتجهنا صوب الجنوب نجد ولاية نهر النيل الحالية ، والتى اصبحت من أكثر المناطق ثراء وغزارة بالتراث الخطى لتعدد علمائها ومراكزها العلمية ، وتقف على راسها مدينتى بربر و الدامر اللتان لا تكتمل خطة البحث عن التراث المخطوط إلا بهما ، بالاضافة الى مدينة شندى وقوز العلم . أما الخرطوم الكبرى التى تضم منطقة الحلفاية حاضرة العبدلاب والصبابى وجزيرة توتى فقد شهدت ازدهارا ثقافيا منقع النظير و بلغت شاوا كبيرا وقدرا واسعا فى وفادة العلماء الذين بلغت شهرتهم الافاق ، وكذلك منطقة الجزيرة والنيل الابيض ومنطقة سنار حاضرة الديار الفنجية التى ارتبطت مراكز العلم فيها بالطرق الصوفية ، فقد نالت حظا وافرا وقدرا كبيرا من التراث المخطوط بحكم البيئة الصوفية التى اسسها المشايخ ، وباركها السلاطين الذين لعبوا دورا بارزا فى إكرام العلماء و المشايخ الذين وفدوا على البلاد من المشرق والمغرب .هذا بالاضافة الى المناطق الغربية (دار فور) التي نالت حظا لا يقل عن ذلك الذى سبق ذكره.
ومن يراجع الآثار والمصادر التاريخية (مثل طبقات ود ضيف الله ) يسترعى انتباهه تراث خطى كبيريقف شاهدا على عظمة و سعة علم هؤلاء العلماء وما خلفوه من آثار؛ وتكفى الإشاره فى هذا المقام الى أحد المصادر التى تحكى عن علَم من أعلام السودان فى ذلك الزمان ، فقد وردت الإشارة من أحد علماء الحرم المكى مثابة المسلمين وقبلتهم ، يذكر فيها العلامة السودانى (عبد اللطيف الخطيب عمار) بعبارة " عالم الديار السودانية و علاّمة الاقطار الإسلامية" (يحيى ، 2001م) و مما يوّسف له لم يقف المؤرخون على أي من آثاره الخطية !؟
والسؤال الذي يفرض نفسه أين انتهت رحلة تلك المؤلفات وإلى اين انتهى بها المطاف ؟ و هل منها ما قاوم عوادى الزمان و بقيت إلى الآن بصورتها أو مع تقادم نسبى فى وضعها المادى؟ بالتأكيد بعضها مازال باقيا و قدر كبير منها تعرض للتلف والضياع بعامل التقادم الطبيعى أو بسبب سوء الحفظ أو بفعل الكوارث والحروب ومنها ما هو مجهول ، والبعض الآخر بأيدي الأفراد و الأسرالتى تضن به دون وعى أو إدراك لخطورة سوء الحفظ والتقادم الطبيعي ؛ ومحنة التراث السوداني المخطوط لا تقف عند هذا الحد ؛ فبالاضافة الى أنه متناثر وغير معروف في غياب فهارس ومسوحات حقلية ؛ تتفاقم احنه ومآسيه وغربته وسط قصور التشريعات الارشيفية الحاسمة ، وامكانات الجهات الرسمية الراعية التى يتاح لها جمعه وتوثيقه ، والآن أصبحت الفرصة سانحة لوضع حد لمآسى هذا التراث ومعاناته على يد وسيمة العصر ومعجزة الزمان "تكنولوجيا المعلومات والاتصالات" . تركز هذه الدراسة على الحفظ الرقمى باستعراض المشاريع الرقمية العالمية التى انطوت على مهارات عالية وتضمنت خبرات ثرة وتجارب رائدة تهيأت لها كل أسباب النجاح ، فقطفت ثمار التجارب التقنية العالمية اليانعة ، وتعول الدراسة على الافادة منها فى شكل متطلبات عمليات الحفظ الرقمى وأسبقياتها من الأدوات والبرمجيات والخطط والخطوات الإرشادية السابقة واللاحقة لعملية الرقمنة ؛ فى مشروع طموح ، تأمل ان تشمل الاستفادة منه ليس فقط الارشيفات الخاصة بل يشمل الارشيفات و الوثائق التى تدخل تحت مظلة السلطة الارشيفية القومية. فالمحفوظ من التراث الخطى بمراكز الارشيف والمكتبات ليس بأوفر حظا مما عند الأفراد والمؤسسات الأهلية ، فمازال ينتظر المعالجات التقنية حتى يمكن حمايته والاستفاده منه

ليست هناك تعليقات: